القائمة الرئيسية

الصفحات

شريط الاخبار

مستشفـى بن صميـم … قصـر أشبـاح

مستشفـى بن صميـم … قصـر أشبـاح
مستشفـى بن صميـم … قصـر أشبـاح
“الصباح” زارت أحد أكبر المستشفيات المهجورة واستمعت إلى قصص السكان ورغبتهم في استعادة البناية

كلما صعدت نحو قمة جبل عين بن صميم، تسارعت دقات القلب، وانتعشت الرئتان بالهواء العليل، واشتد وميض الأعين من كثرة المناظر الطبيعية الخلابة، دون أن تأبه بالمنعرجات أو حفر الطريق التي زادت سوءا، بفعل مرور الشاحنات الضخمة محملة بأطنان من المياه المعلبة. في ما مضى كان الوصول إلى بن صميم لا يستغرق إلا دقائق قليلة، أما الآن، فقد طالت المدة، بعد إغلاق الطريق لتشييد فضاء سياحي، وأصبح مفروضا على الزائرين اختيار طريق “آزرو” التي تكشف عن “مفاتن” منطقة جبلية ساحرة، لكنها تدمي القلوب بمعاناة سكانها، فالشريط الإسفلتي، الذي يسمى مجازا، طريقا ضيقا ومهملا، وبه منعرجات ومطبات كثيرة، يستحيل على غير المحترفين والمعتادين على المنطقة السياقة به ليلا أو في فصل الشتاء.

تواجه بن صميم قسوة الطبيعة بكل شجاعة، فهي جوهرة نفيسة، ففي نهاية الطريق تكتشف ينبوعا مائيا “سحريا” باردا مثل قطعة الثلج تروي عطش الظمأى، ثم غابات بها أشجار من مختلف الأشكال والأنواع يستمتع بظلالها أطفال المخيمات الذين اختاروا المنطقة للاصطياف.
وقف شيخ تحت أشعة الشمس الحارقة ينتظر وسيلة نقل إلى عين بن صميم.
بدا “محماد” منهكا وسعيدا في الوقت نفسه، إذ اعتاد قطع المسافة من قرية بن صميم إلى العين على قدميه، يقاوم خلالها صعوبة التضاريس وجسده المنهك، لكنه سعيد، أو هكذا يروي لكل من التقاه، فقد ازداد بالمنطقة، ثم غادرها مكرها للعمل في الرباط، وحين تقاعد فضل العودة إلى مسقط رأسه، وأصبح مدمنا على قطع مسافة طويلة كل يوم.
يحكي “محماد” عن عشقه للمنطقة، وخصائص أشجارها، ولغز مائها الذي يداوي الأمراض، ولا يتوقف عن الكلام، إلا حين تطل بناية مسشتفى بن صميم المهجور، فيحكي عن ماضيه، وقصص التخلي عنه، حتى أصبح سكنا للأشباح.

مستشفى “الأشباح”

ما إن تظهر أطلال المستشفى، حتى تقفز إلى الذهن جميع قصص الرعب والأشباح، التي ربما سمعت بها من حكايات سكان المنطقة أو شاهدتها على شاشة التلفزيون، فهو مبنى قديم أغلقت أبوابه منذ سنوات طويلة، وترك وحيدا على التل يستحضر ذكرياته ويواجه أشباحه المعذبة.
جدران المبنى كئيبة وزواياه مظلمة، ربما تقطنها عفاريت، كما يحكي السكان، الذين تحدثوا عن رؤيتهم لظلال تهيم ليلا بين ردهات المستشفى وأصواتها الغريبة التي تشبه أنين المرضى فتنبعث رائحة الموت والخراب.
سُيج المستشفى بأسلاك وأحيط، إمعانا في التحذير من الاقتراب به، بشجيرات صغيرة، ولا يسمح لولوجه إلا بالحبو، تكتشف لافتات صدئة أو اسم جمعية للأعمال الاجتماعية، ربما فضلت جعله فضاء للاصطياف، قبل أن تتراجع عن ذلك.
تكشف البناية الضخمة أحد ألغاز المنطقة، فتصميمها وجدرانها جميلة، رغم انهيار أجزاء منها، وتوجد وسط غابة من الأشجار متنوعة… إنها معلمة تاريخية يقول مرافق “الصباح” وهو يشير بيديه إلى بنايات أخرى بالمنطقة.
يروي سكان المنطقة بالتفاصيل حكاية البناية الضخمة، فقد كانت مستشفى شهيرا، وربما أول مصحة متخصصة في إفريقيا، تتكون من ثمانية طوابق، وتحيط بها بنايات أخرى خصصت مساكن لأطباء وممرضين وحراس.
ويحكي مرافق “الصباح” عن تاريخ تشييد مستشفى بن صميم، في أربعينات القرن الماضي، وارتبط وجوده بفرنسي ثري يدعى “موريس بونجان” الذي عانى في فرنسا داء السل، وعجز الأطباء الفرنسيون عن علاجه، وأكدوا له أن حالته ميؤوس منها، فقرر الاستمتاع بما تبقى له في الحياة مسافرا، فتوجه إلى المغرب، وطاف على دواوير الأطلس المتوسط، واكتشف عين بن صميم وطبيعتها الخلابة، فمكث هناك مدة طويلة، فاستعاد عافيته، ثم رجع إلى فرنسا، ولم يصدق الأطباء أنه أصبح سليما معافى.
قرر الثري الفرنسي تشييد مستشفى بمنطقة بن صميم لتقديم العلاج لمرضى السل والربو والحساسية، إذ أيقن أن هواءها وماءها أقوى من كل أدوية الأطباء، فخصص ثروته لبناء أحد أكبر المستشفيات في أفريقيا، وحرص على اختيار الموقع الجغرافي بدقة، إذ يوجد في قمة الجبل وقرب مياه عيون بن صميم وتحيط به الغابة من كل الجهات.
أعلن في 1948 عن بداية أشغال بناء المستشفى على مساحة 80 هكتارا، وفي 1954 أعلن عن افتتاحه بطاقة استيعابية ل400 سرير، إضافة إلى مرافق أخرى، مثل ملاعب وقاعة للسينما، وفضاءات أخرى، وحرص الفرنسيون على توفير طاقم طبي متخصص يتكون من أربعة أطباء متخصصين في علاج الأمراض الصدرية والتنفسية، تحت إشراف طبيب رئيس، ويساعدهم 32 ممرضا يستقرون في بنايات خصصت لهم.
استفاد سكان القرية من المستشفى، وشهدت المنطقة ما يطلق عليه حاليا “السياحة الطبية”، فاستقبل مئات المرضى بالسل، الذين حلوا به، قادمين من مختلف المدن المغربية وأوربا طلبا للعلاج، فزودوا المستشفى بما تنتجه أراضيهم ومواشيهم، كما أن بعض شباب المنطقة اشتغلوا في مهن لها علاقة بطبيعة المستشفى، ولعل ذلك ما يفسر حسرة سكان القرية على “اختفاء” المستشفى.
تكشف عدد من الوثائق التي يحتفظ بها سكان المنطقة عن أهمية المستشفى، فبداية التخلي عنه ابتدأت منذ أن تسلمت وزارة الصحة شؤون تدبيره في 1965، علما أن المستشفى كان مستقلا ماليا. ففي تلك السنة، يقول أحد أبناء قرية بن صميم، أسندت مهمة تسييره إلى وزارة الصحة ، وفي السنة ذاتها بدأ “الموت” يسري في شرايينه، إذ لم تمض سوى ثماني سنوات، حتى انتهى أمره وصدر قرار بإعدامه بشكل رسمي في 1975.
ظل السكان يتوقون إلى إعادة فتح المستشفى، بل إن نائبا برلمانيا عن حزب الاستقلال وجه سؤالا إلى الراحل إدريس البصري، وزير الداخلية في التسعينات، الذي أكد في جوابه على تخصيص المستشفى للأبحاث العلمية، ومرت سنوات دون أن يرى السكان تغيرا، وتحدث بعضهم عن تحويل البناية إلى وحدة سياحية استثمارية.
أمام باب المستشفى ترجل سائق سيارة ثم استغرق في تأمل البناية المهجورة، حتى اغرورقت عيناه بالدموع، ثم قال إن المستشفى يذكره بطفولته، قبل أن يهاجر إلى أوربا، خاصة أن الأطباء فيه أنقذوا حياة والده، لذلك اعتاد سنويا على زيارة المستشفى، أملا في أن يستعيد بريقه، خاصة أنه كان يقدم خدمات جليلة بإنقاذ حياة العديدين في وقت شاع فيه مرض السل.

انتفاضة المرضى

لم يستسغ جمعويون إغلاق المستشفى، ويصفون القرار بانتكاسة اقتصادية، متحدثين عن مراسلات واقتراحات وجهت إلى المسؤولين لإخراج المستشفى من الوضع الكارثي، أو استغلال فضائه، لكن دون جدوى.
تحدث أحدهم بنبرة تطبعها الحسرة والأمل في الوقت نفسه، عن معلمة تاريخية بحكم الخدمات الصحية الاستشفائية التي قدتمها لمرضى داء السل، ليس وطنيا، بل تجاوز ذلك إلى الخارج في إطار إشعاعي دولي. كما أنه ساهم في الرواج الاقتصادي بفعل الوافدين والزوار في غياب نسيج اقتصادي ينعش المنطقة محليا، مشيرا إلى أن إغلاقه فاجأ السكان والمرضى على حد سواء.
نفضت وزارة الصحة يدها من المستشفى، فطال الإهمال المعلمة الاستشفائية وفضاءها، ولم تتخذ أي مبادرة رغم بعض الاقتراحات السابقة، مثل استغلال الفضاء في إنشاء مؤسسات لتكوين الأطر الصحية، أو اقتراح يقضي بإقامة مركز لتشخيص ومعالجة السرطان.

جودة الماء

يوجد المستشفى غير بعيد عن مقر مصنع شركة للماء المستغلة لحصص من عين افران، ومظاهر الاستغلال العشوائي تطغى على المكان، وتتوزع في الفضاء أنشطة معيشية تقدم للزوار ما يحتاجونه من الأكل والشرب. أما الزوار فيختارون، غالبا، ضفاف مجرى مائي صغير من أجل الاستمتاع بالطبيعة تحت ظلال الأشجار.
تعتمد الأسر بالجماعة الترابية بنصميم في التزود بالماء على الطرق التقليدية، سواء من خلال الآبار أو عيون المياه فيما تبقى نسبة قليلة تتوفر على أبراج خاصة بها للتزود بالماء، في حين أن الدواوير المكونة للجماعة لا ترتبط بشبكة للمياه الصالحة للشرب. وفي هذا الصدد أوضح مصدر محلي أن هناك اتفاقية موقعة مع المكتب الوطني للماء الصالح للشرب قصد ربط نحو ستة دواوير بشبكة الماء الصالح للشرب، مشيرا إلى أن أشغال تنفيذها بدأت منذ فترة.

الجماعة في أرقام

يقدر عدد سكان جماعة بن صميم ب3500 نسمة، وتبعد عن مركز إفران بعشرة كيلومترات، وستة كيلومترات عن أزرو.  وأغلب سكانها يعيشون على الأنشطة الزراعية التي تعد النشاط الرئيسي، مع وجود أنشطة أخرى ترتبط أساسا بالثروة الغابوية.
وحسب معطيات الجماعة الترابية ل2011، فإن نحو ألف ومائتي أسرة تزاول أنشطة مختلفة منها أزيد من 900 أسرة تزاول الزراعة والرعي، فيما يزاول الباقي البناء والحرف، والتجارة والخدمات والإدارة.
وتشير الوثائق نفسها إلى أن الزراعة والثروة الحيوانية أهم نشاط للتشغيل بالمنطقة، إذ يحتضنان نحو 72 في المائة من السكان النشيطين، في الوقت الذي لا توجد فيه أنشطة منظمة مرتبطة باستغلال مياه عين افران المعدنية الطبيعية، سواء من حيث أنشطة السياحة الإيكولوجية أو أنشطة تجارية وخدماتية منظمة.
وتنتمي جماعة بن صميم إلى جهة فاس مكناس، وتوجد بإقليم إفران مركز أزرو قيادة أركلاون. وتقدر مساحتها بـ 342.58 كيلومترا. فيما توجد بها عدة ينابيع، منها عين سيدي راشد يصل صبيبها إلى 172 لترا في الثانية، وعين رأس الماء بصبيب يصل إلى 221 لترا في الثانية، ثم عين بن صميم بصبيب يقدر بـ 75 لترا في الثانية. وبخصوص الجبايات التي تستخلصها الجماعة مقابل هذا الاستغلال، بلغت المبالغ التي ضختها شركة للماء  في ميزانية جماعة بن صميم 8 ملايين و687 ألفا و 586 درهما خلال سنة 2017، حسب بعض التقارير.

إنجاز: خالد العطاوي/ تصوير: عبد الحق خليفة (موفدا الصباح إلى إفران)

تعليقات